وزير الأوقاف.. الخطاب الديني قضيتنا الأولى
لا شك أن قضية الخطاب الديني هي قضية الأوقاف الأولى ، وربما تظل القضية الفكرية والثقافية الأولى لجيلنا ، لأن الجهود التي تحتاجها قضية الخطاب الديني لا يمكن أن تكون عفوية أو طارئة أو آنية ، بل هي قضية حياة ، لمن يريد أن يجلي الغبار عن الوجه الحضاري لديننا الإسلامي الوسطي السمح ، ولمن يريد أن يبني وطنا أو أمة على حضارة نيرة مستقيمة لا نتوء فيها ولا اعوجاج ، ذلك لأن ما أصاب الخطاب الديني على أيدي أعدائه وأيدي الخونة والمارقين والمستأجرين والمستغفلين وغير المؤهلين وغير المتخصصين من المحسوبين عليه بغير حق من الخلل والعطب في الفهم والتفكير يحتاج إلى جهود مضنية لإصلاحه .
وبما أن تغيير الفكر والثقافة أو تصويب مسار المعتقد ليس بالأمر الهين أو اليسير ، إنما هو أمر تراكمي من جهة ، وتتحكم فيه عوامل وعناصر متعدة من جهة أخرى ، فإن الأمر يحتاج إلى جهد وزمن وصبر ، وفي الوقت نفسه إلى عزيمة وعلو همة لاختصار الزمن المطلوب وتقريب المسافات البعيدة وردم الفجوة بين الواقع والطموح الذي نسعى إليه .
مع إيماننا بأن الأمور العقدية و الفكرية والدعوية والثقافية أشبه ما يكون بالطفل أو النبات الذي ينمو نموًا بطيئًا قد يكون غير منظور بالعين المجردة أو الرؤية المباشرة في مراحل نموه الزمنية في المدى القصير ، غير أنه يضطرد في هذا النمو حتى يستوي الطفل رجلا والنبات ثمرًا ، وهو ما نعمل له وعليه ، آملين في التصحيح المستمر والتغيير التدريجي حتى نقتلع التطرف من جذوره ، ويحل محله الفكر السوي المستقيم المستقى من صحيح ديننا وسماحته ووسطيته واستيعابه للحضارة الإنسانية ، وترسيخه لأسس التعايش السلمي بين البشر جميعا.
وفي هذا الإطار يأتي مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف الذي نعقده في مدينة الأقصر يومي 14 ، 15 نوفمبر 2015م تحت عنوان : ” رؤية الأئمة والدعاة لتجديد الخطاب الديني وتفكيك الفكر المتطرف ” ليشكل حلقة من حلقات عمل الوزارة في محاولات التجديد ونفض الغبار عن ثقافتنا الإسلامية الناصعة البياض ، وتفكيك الفكر المتطرف الذي ينهش في جسد الأمة بلا رحمة ولا هوادة ولا إنسانية ، في عمالة واضحة لأعداء الأمة ، وخيانة معتقديه لدينهم وأمتهم .
وإيمانًا منا بأن أحدًا لا يمكن أن يعمل وحده أو أن ينجح وحده أو أن يقضي على هذا التطرف وحده ، وأن قضيتنا هي أوسع من تجديد الخطاب الديني ، إنما نرمي إلى صياغة جديدة للفكر العربي والإسلامي من خلال تجديد الخطاب الديني ، والفكري ، والعقلي ، والثقافي ، والاجتماعي ، والإعلامي ، فإننا قد عمدنا إلى إشراك نخبة من هؤلاء وأولئك في مؤتمرنا وكثير من أعمالنا الفكرية ، تأكيدًا منا على أن القضية أكبر من أي فصيل بعينه ، وعلى أنها قضية وطن ، وقضية أمة ، وقضية عصر ، وقضية جيل ، بل قضية أجيال ، وإن شئت فقل : إنها قضية مصيرية لوطننا وأمتنا وثقافتنا ، وواجب شرعي تجاه ديننا العظيم .
ولعل اختيار مدينة الأقصر مكانا لانعقاد المؤتمر يحمل دلالات عديدة تصب في اتجاه التجديد ، من أهمها التأكيد على تعايش الإسلام مع الحضارات المختلفة والمعتقدات المختلفة ، حيث تتعانق المساجد مع المعابد والمعالم الأثرية والحضارية ، وهو ما أردنا أن نرسل من خلاله رسالة تبرز نظرة الإسلام المتسامحة تجاه جميع الحضارات ، وحرصه على استيعابها والتعايش معها ، بل إنه أكثر دين حافظ على معالم الحضارات المختلفة .
مع تأكيدنا أن أي جهد يبذل في هذا الاتجاه بنيّة صادقة لا يمكن أن يذهب هدرًا ، إذ إن كثيرًا من الناس الآن صاروا أكثر وعيًا وفهمًا لطبيعة ديننا الإسلامي السمح ، وأكثر رفضا لكل ألوان التشدد والتطرف والفكر المنحرف ، مدركين أنه لا علاقة لها بالإسلام ولا علاقة للإسلام بها ، غير أن الطريق ما زال طويلاً ، والجهد المطلوب ما زال كبيرًا ، والأمانة ما زالت ثقيلة ، مما يتطلب حركة جماعية مؤسسية في المؤسسات : الدينية ، والثقافية ، والعلمية ، والتعليمية ، والتربوية ، والشبابية ، والمجتمعية ، وهو ما نعمل عليه الآن ، ونبني عليه في المستقبل ، حتى نحصن شبابنا ومجتمعنا وأمتنا من الفكر المتطرف ، ونبيّن للعالم كله مدى سماحة ديننا وبراءته من التطرف والإرهاب براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، من خلال لقاءاتنا ومؤتمراتنا وموفدينا ومبعوثينا لجميع دول العالم ، ومن خلال مطبوعاتنا المترجمة ، ومراكز التواصل العصرية المتعددة ، وإن كنا نؤمن أن هذه الجهود ما زالت في حاجة مُلحّة إلى عقد ينظمها ، لتؤتي ثمرها وأكلها على الوجه الأكمل بإذن الله تعالى .
على أن قضية الخطاب الديني إنما ترتبط ارتباطا وثيقا بتفكيك الفكر المتطرف وكشف زيفه وبطلانه وضلاله وإضلاله ، حتى نكشف عمالة وخيانة وضلال معتنقيه ، ونحصن أبناءنا وشبابنا ومجتمعاتنا من شروره ، ونعالج أسبابه ، ونعمل على إزالتها ، وهو الشق الثاني من مؤتمرنا المزمع عقده نوفمبر الجاري إن شاء الله تعالى .